فصل: تفسير الآيات رقم (265 - 266)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآية رقم ‏[‏257‏]‏

‏{‏اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏

يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سُبُل السلام فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير، وأن الكافرين إنما وليهم الشياطين تزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات، ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك ‏{‏أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات؛ لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة كما قال‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏153‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏1‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏48‏]‏ إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق، وانتشار الباطل وتفرده وتشعبه‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي حدثنا علي بن ميسرة حدثنا عبد العزيز بن أبي عثمان عن موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد قال‏:‏ يبعث أهل الأهواء -أو قال‏:‏ يبعث أهل الفتن- فمن كان هواه الإيمان كانت فتنته بيضاء مضيئة، ومن كان هواه الكفر كانت فتنته سوداء مظلمة، ثم قرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏258‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏

هذا الذي حاج إبراهيم في ربه وهو ملك بابل‏:‏ نمروذ بن كنعان بن كُوش بن سام بن نوح‏.‏ ويقال‏:‏ نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح والأول قول مجاهد وغيره‏.‏

قال مجاهد‏:‏ وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة‏:‏ مؤمنان وكافران فالمؤمنان‏:‏ سليمان بن داود وذو القرنين‏.‏ والكافران‏:‏ نمرود ‏[‏بن كنعان‏]‏ وبختنصر‏.‏ فالله أعلم‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ‏}‏ أي‏:‏ بقلبك يا محمد ‏{‏إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏في‏]‏ وجود ربه‏.‏ وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره كما قال بعده فرعون لملئه‏:‏ ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏38‏]‏ وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة إلا تجبره، وطول مدته في الملك؛ وذلك أنه يقال‏:‏ إنه مكث أربعمائة سنة في ملكه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ‏}‏ وكأنه طلب من إبراهيم دليلا على وجود الرب الذي يدعو إليه فقال إبراهيم‏:‏ ‏{‏رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ‏}‏ أي‏:‏ الدليل على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها، وعدمها بعد وجودها‏.‏ وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ضرورة؛ لأنها لم تحدث بنفسها فلا بد لها من موجد أوجدها وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له‏.‏ فعند ذلك قال المحاج -وهو النمروذ-‏:‏ ‏{‏أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ‏}‏ قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي وغير واحد‏:‏ وذلك أني أوتى بالرجلين قد استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل، وبالعفو عن الآخر فلا يقتل‏.‏ فذلك معنى الإحياء والإماتة‏.‏

والظاهر -والله أعلم- أنه ما أراد هذا؛ لأنه ليس جوابًا لما قال إبراهيم ولا في معناه؛ لأنه غير مانع لوجود الصانع‏.‏ وإنما أراد أن يَدّعي لنفسه هذا المقام عنادًا ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك وأنه هو الذي يحيي ويميت، كما اقتدى به فرعون في قوله‏:‏ ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ولهذا قال له إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ‏}‏ أي‏:‏ إذا كنت كما تدعي من أنك ‏[‏أنت الذي‏]‏ تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق، فإن كنت إلهًا كما ادعيت تحيي وتميت فأت بها من المغرب‏.‏ فلما علم عجزه وانقطاعه، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت أي‏:‏ أخرس فلا يتكلم، وقامت عليه الحجة‏.‏ قال الله تعالى ‏{‏وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ لا يلهمهم حجة ولا برهانًا بل حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد‏.‏

وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين‏:‏ أن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى أوضح منه، ومنهم من قد يطلق عبارة ردية‏.‏ وليس كما قالوه بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني ويُبَيّن بطلان ما ادعاه نمروذ في الأول والثاني، ولله الحمد والمنة‏.‏

وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمروذ بعد خروج إبراهيم من النار ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه المناظرة‏.‏

وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم‏:‏ أن النمروذ كان عنده طعام وكان الناس يغدون إليه للميرة فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة فكان بينهما هذه المناظرة ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس بل خرج وليس معه شيء من الطعام، فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه وقال‏:‏ أشغل أهلي عني إذا قدمت عليهم فلما قدم وضع رحاله وجاء فاتكأ فنام‏.‏ فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعامًا طيبًا فعملت منه طعاما‏.‏ فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه فقال‏:‏ أنى لكم هذا‏؟‏ قالت‏:‏ من الذي جئت به‏.‏ فعرف أنه رزق رزقهموه الله عز وجل‏.‏ قال زيد بن أسلم‏:‏ وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكا يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه ثم دعاه الثانية فأبى ثم الثالثة فأبى وقال‏:‏ اجمع جموعك وأجمع جموعي‏.‏ فجمع النمروذ جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس، وأرسل الله عليهم بابا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظاما بادية، ودخلت واحدة منها في منخري الملك فمكثت في منخريه أربعمائة سنة، عذبه الله بها فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏259‏]‏

‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏

تقدم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ‏[‏أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ‏]‏ وهو في قوة قوله‏:‏ هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه‏؟‏ ولهذا عطف عليه بقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا‏}‏ اختلفوا في هذا المار من هو‏؟‏ فروى ابن أبي حاتم عن عصام بن رَوَّاد عن آدم بن أبي إياس عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي بن أبي طالب أنه قال‏:‏ هو عزير‏.‏

ورواه ابن جرير عن ناجية نفسه‏.‏ وحكاه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وسليمان بن بُرَيْدَة وهذا القول هو المشهور‏.‏

وقال وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد بن عمير‏:‏ هو أرميا بن حلقيا‏.‏ قال محمد بن إسحاق؛ عمن لا يتهم عن وهب بن منبه أنه قال‏:‏ وهو اسم الخضر عليه السلام‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي قال‏:‏ سمعت سليمان بن محمد اليساري الجاري -من أهل الجار، ابن عم مطرف- قال‏:‏ سمعت رجلا من أهل الشام يقول‏:‏ إن الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه اسمه‏:‏ حزقيل بن بورا‏.‏ وقال مجاهد بن جبر‏:‏ هو رجل من بني إسرائيل‏.‏

‏[‏وذكر غير واحد أنه مات وهو ابن أربعين سنه؛ فبعثه الله وهو كذلك، وكان له ابن فبلغ من السن مائة وعشرين سنة، وبلغ ابن ابنه تسعين وكان الجد شابا وابنه وابن ابنه شيخان كبيران قد بلغا الهرم، وأنشدني به بعض الشعراء‏:‏

واسوَدّ رأس شاب من قبل ابنه *** ومن قبله ابن ابنه فهو أكبر

يرى أنه شيخا يدب على عصا *** ولحيته سوداء والرأس أشعر

وما لابنه حبل ولا فضل قوة *** يقوم كما يمشي الصغير فيعثر

وعمر ابنه أربعون أمرها *** ولابن ابنه في الناس تسعين غبر‏]‏

وأما القرية‏:‏ فالمشهور أنها بيت المقدس مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها‏.‏ ‏{‏وَهِيَ خَاوِيَة‏}‏ أي‏:‏ ليس فيها أحد من قولهم‏:‏ خوت الدار تخوي خواءً وخُويا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عَلَى عُرُوشِهَا‏}‏ أي‏:‏ ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها، فوقف متفكرا فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة وقال‏:‏ ‏{‏أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها وبعدها عن العود إلى ما كانت عليه قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَه‏}‏ قال‏:‏ وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته وتكامل ساكنوها وتراجعت بنو إسرائيل إليها‏.‏ فلما بعثه الله عز وجل بعد موته كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحيي بدنه‏؟‏ فلما استقل سويا قال الله له -أي بواسطة الملك-‏:‏ ‏{‏كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْم‏}‏ قالوا‏:‏ وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه الله في آخر نهار، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال‏:‏ ‏{‏أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ‏}‏ وذلك‏:‏ أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير فوجده كما فقده لم يتغير منه شيء، لا العصير استحال ولا التين حمض ولا أنتن ولا العنب تعفن ‏{‏وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِك‏}‏ أي‏:‏ كيف يحييه الله عز وجل وأنت تنظر ‏{‏وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ‏}‏ أي‏:‏ دليلا على المعاد ‏{‏وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا‏}‏ أي‏:‏ نرفعها فتركب بعضها على بعض‏.‏

وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث نافع بن أبي نُعَيْم عن إسماعيل بن أبي حكيم عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ‏:‏ ‏{‏كَيْفَ نُنشِزُهَا‏}‏ بالزاي ثم قال‏:‏ صحيح الإسناد ولم يخرجاه‏.‏

ننشرها - وقرئ‏:‏‏(‏ننشرها‏)‏‏}‏ أي‏:‏ نحييها قاله مجاهد ‏{‏ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا‏}‏‏.‏

وقال السدي وغيره‏:‏ تفرقت عظام حماره حوله يمينًا ويسارًا فنظر إليها وهي تلوح من بياضها فبعث الله ريحًا فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة، ثم ركب كل عظم في موضعه حتى صار حمارًا قائمًا من عظام لا لحم عليها ثم كساها الله لحمًا وعصبًا وعروقًا وجلدًا، وبعث الله ملكًا فنفخ في منخري الحمار فنهق كله بإذن الله عز وجل وذلك كله بمرأى من العزير فعند ذلك لما تبين له هذا كله ‏{‏قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ أنا عالم بهذا وقد رأيته عيانًا فأنا أعلم أهل زماني بذلك وقرأ آخرون‏:‏ ‏"‏قَالْ اعْلَمْ‏"‏ على أنه أمر له بالعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏260‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏

ذكروا لسؤال إبراهيم عليه السلام، أسبابا، منها‏:‏ أنه لما قال لنمروذ‏:‏ ‏{‏رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ‏}‏ أحب أن يترقى من علم اليقين في ذلك إلى عين اليقين، وأن يرى ذلك مشاهدة فقال‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ فأما الحديث الذي رواه البخاري عند هذه الآية‏:‏ حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة وسعيد، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال‏:‏ رب أرني كيف تحيى الموتى‏؟‏ قال‏:‏ أو لم تؤمن‏.‏ قال‏:‏ بلى، ولكن ليطمئن قلبي‏"‏ وكذا رواه مسلم، عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب به -فليس المراد هاهنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده، بلا خلاف‏.‏ وقد أجيب عن هذا الحديث بأجوبة، أحدها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ‏}‏ اختلف المفسرون في هذه الأربعة‏:‏ ما هي‏؟‏ وإن كان لا طائل تحت تعيينها، إذ لو كان في ذلك مُتَّهم لنص عليه القرآن، فروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ هي الغرنوق، والطاوس، والديك، والحمامة‏.‏ وعنه أيضًا‏:‏ أنه أخذ وزًّا، ورألا -وهو فرخ النعام -وديكا، وطاووسًا‏.‏ وقال مجاهد وعكرمة‏:‏ كانت حمامة، وديكا، وطاووسًا، وغرابًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْك‏}‏ أي‏:‏ قطعهن‏.‏ قاله ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

أحدها‏:‏ قول إسماعيل المزني‏:‏ لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم، عليه السلام، في أن الله سبحانه قادر على إحياء الموتى، وإنما بدأ لجاهل يجيبهما إلى ما سألاه‏.‏ وقال الخطابي في قوله‏:‏ ‏"‏نحن أحق بالشك من إبراهيم‏"‏‏:‏ ليس اعتراف بالشك على نفسه ولا على إبراهيم، ولكن فيه نفي الشك عنهما يقول‏:‏ إذا لم أشك في قدرة الله على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى بألا يشك، قال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس، وكذلك قوله‏:‏ ‏"‏لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي‏"‏ وفيه الإعلام بأن المسألة من جهة إبراهيم لم تعرض من جهة الشك، لكن من قبل زيادة العلم بالعيان، لأنه يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيد الاستدلال، وقيل‏:‏ قال هذا صلى الله عليه وسلم تواضعا وتقديما لإبراهيم قوله‏:‏ ‏"‏أو لم تؤمن قال‏:‏ بلى قد آمنت‏"‏‏.‏

وأظن هذا من تصرف الناسخ، لأنه كتب بالجانب بياض في الأصل‏.‏ قال الشيخ أحمد شاكر عند هذا الموضع من كتابه ‏"‏العمدة‏"‏ الذي هو مختصر تفسير ابن كثير ‏(‏2/170‏)‏‏}‏‏.‏

‏"‏هنا بياض في المخطوطة الأزهرية والمطبوعة، لعل الحافظ ابن كثير تركه ليكتب الأقوال في ذلك، ثم لم يفعل سهوا أو نسيانا وقد أفاض الحافظ ابن حجر في الفتح ‏(‏6/294، 295‏)‏ في ذكر أقوال العلماء في ذلك‏.‏ وأجود ذلك عندي قول ابن عطية‏:‏ ‏"‏إن الحديث مبني على نفي الشك، والمراد بالشك فيه‏:‏ الخواطر التي لا تثبت‏.‏ وأما الشك المصطلح - وهو التوقف بين الأمرين من غير مزية لأحدهما على الآخر - فهو منفي عن الخليل قطعا؛ لأنه يبعد وقوعه ممن رسخ الإيمان في قلبه، فكيف بمن بلغ رتبة النبوة‏؟‏‏!‏ وأيضا فإن السؤال لما وقع بــ ‏(‏كيف‏)‏ دل على حال شيء موجود مقرر عند السائل والمسئول، كما تقول‏:‏ كيف علم فلان فــ ‏(‏كيف‏)‏‏}‏ في الآية سؤال عن هيئة الإحياء لا عن نفس الإحياء فإنه ثابت مقرر‏.‏ وقال غيره‏:‏ معناه‏:‏ إذا لم نشك نحن، فإبراهيم أولى ألا يشك، أي‏:‏ لو كان الشك متطرفا إلى الأنبياء؛ لكنت أنا أحق به منه، وقد علمتم أني لم أشك فاعلموا أنه لم يشك وإنما قال ذلك تواضعا منه‏"‏‏.‏

مالك، وأبو الأسود الدؤلي، ووهب بن منبه، والحسن، والسدي، وغيرهم‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَصُرْهُنَّ إِلَيْك‏}‏ أوثقهن، فلما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل على كل جبل منهن جزءًا، فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن، ثم قطعهن ونتف ريشهن، ومزقهن وخلط بعضهن في ببعض، ثم جزأهن أجزاءً، وجعل على كل جبل منهن جزءًا، قيل‏:‏ أربعة أجبل‏.‏ وقيل‏:‏ سبعة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وأخذ رؤوسهن بيده، ثم أمره الله عز وجل، أن يدعوهن، فدعاهن كما أمره الله عز وجل، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض، حتى قام كل طائر على حدته، وأتينه يمشين سعيا ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم، عليه السلام، فإذا قدم له غير رأسه يأباه، فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جثته بحول الله وقوته؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ عزيز لا يغلبه شيء، ولا يمتنع منه شيء، وما شاء كان بلا ممانع لأنه العظيم القاهر لكل شيء، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره‏.‏

قال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا مَعْمَر، عن أيوب في قوله‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ ما في القرآن آية أرجى عندي منها‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت زيد بن علي يحدث، عن رجل، عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ اتعد عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص أن يجتمعا‏.‏ قال‏:‏ ونحن شببة، فقال أحدهما لصاحبه‏:‏ أي آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة‏؟‏ فقال عبد الله بن عمرو‏:‏ قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا‏}‏ الآية ‏[‏الزمر‏:‏53‏]‏‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ أما إن كنت تقول‏:‏ إنها، وإن أرجى منها لهذه الأمة قول إبراهيم‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث، حدثني ابن أبي سلمة عن محمد بن المنْكَدِر، أنه قال‏:‏ التقى عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، فقال ابن عباس لابن عمرو بن العاص‏:‏ أي آية في القرآن أرجى عندك‏؟‏ فقال عبد الله بن عمرو‏:‏ قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا ‏[‏مِنْ رَحْمَةِ اللَّه‏]‏ الآية -فقال ابن عباس‏:‏ لكن أنا أقول ‏:‏ قول الله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى‏}‏ فرضي من إبراهيم قوله‏:‏ ‏{‏بَلَى‏}‏ قال‏:‏ فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان‏.‏

وهكذا رواه الحاكم في المستدرك، عن أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن الأخرم، عن إبراهيم بن عبد الله السعدي، عن بشر بن عمر الزهراني، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، بإسناده، مثله‏.‏ ثم قال‏:‏ صحيح الإسناد، ولم يخرجاه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏261‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏

هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فقال‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ في طاعة الله‏.‏ وقال مكحول‏:‏ يعني به‏:‏ الإنفاق في الجهاد، من رباط الخيل وإعداد السلاح وغير ذلك، وقال شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس‏:‏ الجهاد والحج، يضعف الدرهم فيهما إلى سبعمائة ضعف؛ ولهذا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ‏}‏ وهذا المثل أبلغ في النفوس، من ذكر عدد السبعمائة، فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل، لأصحابها، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة، وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف، قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا زياد بن الربيع أبو خِدَاش، حدثنا واصل مولى ابن عيينة، عن بشار بن أبي سيف الجرمي، عن عياض بن غطيف قال‏:‏ دخلنا على أبي عبيدة ‏[‏بن الجراح‏]‏ نعوده من شكوى أصابه -وامرأته تُحَيْفَة قاعدة عند رأسه - قلنا‏:‏ كيف بات أبو عبيدة‏؟‏ قالت‏:‏ والله لقد بات بأجر، قال أبو عبيدة‏:‏ ما بت بأجر، وكان مقبلا بوجهه على الحائط، فأقبل على القوم بوجهه، وقال‏:‏ ألا تسألوني عما قلت‏؟‏ قالوا‏:‏ ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة، ومن أنفق على نفسه وأهله، أو عاد مريضا أو مازَ أذى، فالحسنة بعشر أمثالها، والصوم جنة ما لم يخرقها، ومن ابتلاه الله عز وجل، ببلاء في جسده فهو له حطة‏"‏‏.‏ وقد روى النسائي في الصوم بعضه من حديث واصل به، ومن وجه آخر موقوفا‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سليمان، سمعت أبا عمرو الشيباني، عن ابن مسعود‏:‏ أن رجلا تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة‏"‏‏.‏

ورواه مسلم والنسائي، من حديث سليمان بن مِهْران، عن الأعمش، به‏.‏ ولفظ مسلم‏:‏ جاء رجل بناقة مخطومة، فقال‏:‏ يا رسول الله، هذه في سبيل الله‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال أحمد‏:‏ حدثنا عمرو بن مَجْمَع أبو المنذر الكندي، أخبرنا إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله عز وجل، جعل حسنة ابن آدم بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم، والصوم لي وأنا أجزي به، وللصائم فرحتان‏:‏ فرحة عند إفطاره وفرحة يوم القيامة، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك‏"‏‏.‏ حديث آخر‏:‏ قال ‏[‏الإمام‏]‏ أحمد‏:‏ حدثنا وَكِيع، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله، يقول الله‏:‏ إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي، وللصائم فرحتان‏:‏ فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخُلُوف فِيه أطيب عند الله من ريح المسك‏.‏ الصوم جنة، الصوم جنة‏"‏‏.‏ وكذا رواه مسلم، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي سعيد الأشج، كلاهما عن وكيع، به‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال أحمد‏:‏ حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن الركين، عن يُسَيْر بن عميلة عن خريم بن فاتك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من أنفق نفقة في سبيل الله تضاعف بسبعمائة ضعف‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال أبو داود‏:‏ حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، حدثنا ابن وهب، عن يحيى بن أيوب وسعيد بن أبي أيوب، عن زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الصلاة والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا هارون بن عبد الله بن مروان، حدثنا ابن أبي فديك، عن الخليل بن عبد الله، عن الحسن، عن عمران بن حصين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من أرسل بنفقة في سبيل الله، وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم يوم القيامة ومن غزا في سبيل الله، وأنفق في جهة ذلك فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم‏"‏‏.‏ ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏ وهذا حديث غريب‏.‏

وقد تقدم حديث أبي عثمان النهدي، عن أبي هريرة في تضعيف الحسنة إلى ألفي ألف حسنة، عند قوله‏:‏ ‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏245‏]‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال ابن مردويه‏:‏ حدثنا عبد الله بن عبيد الله بن العسكري البزاز، أخبرنا الحسن بن علي بن شبيب، أخبرنا محمود بن خالد الدمشقي، أخبرنا أبي، عن عيسى بن المسيب، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه‏}‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏رب زد أمتي‏"‏ قال‏:‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏رب زد أمتي‏"‏ قال‏:‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏10‏]‏‏.‏

وقد رواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه، عن حاجب بن أركين، عن أبي عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز المقرئ، عن أبي إسماعيل المؤدب، عن عيسى بن المسيب، عن نافع، عن ابن عمر، فذكره‏.‏

وقوله هاهنا‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏ أي‏:‏ بحسب إخلاصه في عمله ‏{‏وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ فضله واسع كثير أكثر من خلقه، عليم بمن يستحق ومن لا يستحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏262 - 264‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ‏}‏

يمدح تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات منا على من أعطوه، فلا يمنون على أحد، ولا يمنون به لا بقول ولا فعل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا أَذًى‏}‏ أي‏:‏ لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها يحبطون به ما سلف من الإحسان‏.‏ ثم وعدهم تعالى الجزاء الجزيل على ذلك، فقال‏:‏ ‏{‏لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم‏}‏ أي‏:‏ ثوابهم على الله، لا على أحد سواه ‏{‏وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِم‏}‏ أي‏:‏ فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة ‏{‏وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ أي‏:‏ ‏[‏على‏]‏ ما خلفوه من الأولاد وما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها لا يأسفون عليها؛ لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَوْلٌ مَعْرُوفٌ‏}‏ أي‏:‏ من كلمة طيبة ودعاء لمسلم ‏{‏وَمَغْفِرَة‏}‏ أي‏:‏ غفر عن ظلم قولي أو فعلي ‏{‏خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى‏}‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل قال‏:‏ قرأت على معقل بن عبيد الله، عن عمرو بن دينار قال‏:‏ بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ما من صدقة أحب إلى الله من قول معروف، ألم تسمع قوله‏:‏ ‏{‏قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى‏}‏ ‏"‏ ‏{‏وَاللَّهُ غَنِيٌّ‏}‏ ‏[‏أي‏]‏‏:‏ عن خلقه‏.‏

‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ يحلم ويغفر ويصفح ويتجاوز عنهم‏.‏

وقد وردت الأحاديث بالنهي عن المن في الصدقة، ففي صحيح مسلم، من حديث شعبة، عن الأعمش عن سليمان بن مُسْهِر، عن خرشة بن الحر، عن أبي ذر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم‏:‏ المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب‏"‏‏.‏

وقال ابن مردويه‏:‏ حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى، أخبرنا عثمان بن محمد الدوري، أخبرنا هشيم بن خارجة، أخبرنا سليمان بن عقبة، عن يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر، ولا مكذب بقدر‏"‏ وروى أحمد وابن ماجه، من حديث يونس بن ميسرة نحوه‏.‏

ثم روى ابن مردويه، وابن حبان، والحاكم في مستدركه، والنسائي من حديث عبد الله بن يسار الأعرج، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة‏:‏ العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان بما أعطى‏"‏‏.‏

وقد روى النسائي، عن مالك بن سعد، عن عمه روح بن عبادة، عن عتاب بن بشير، عن خصيف الجزري، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا عاق لوالديه، ولا منان‏"‏‏.‏

وقد رواه ابن أبي حاتم، عن الحسن بن المنهال عن محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، عن عتاب، عن خُصَيف، عن مجاهد، عن ابن عباس‏.‏

ورواه النسائي من حديث، عبد الكريم بن مالك الجزري، عن مجاهد، قوله‏.‏ وقد روي عن مجاهد، عن أبي سعيد وعن مجاهد، عن أبي هريرة، نحوه‏.‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى‏}‏ فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى، فما يفي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ‏}‏ أي‏:‏ لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كما تبطل صدقة من راءى بها الناس، فأظهر لهم أنه يريد وجه الله وإنما قصده مدح الناس له أو شهرته بالصفات الجميلة، ليشكر بين الناس، أو يقال‏:‏ إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية، مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر‏}‏ ثم ضرب تعالى مثل ذلك المرائي بإنفاقه -قال الضحاك‏:‏ والذي يتبع نفقته منا أو أذى -فقال‏:‏ ‏{‏فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ‏}‏ وهو جمع صَفْوانة، ومنهم من يقول‏:‏ الصفوان يستعمل مفردا أيضا، وهو الصفا، وهو الصخر الأملس ‏{‏عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ‏}‏ وهو المطر الشديد ‏{‏فَتَرَكَهُ صَلْدًا‏}‏ أي‏:‏ فترك الوابل ذلك الصفوان صلدًا، أي ‏:‏ أملس يابسًا، أي‏:‏ لا شيء عليه من ذلك التراب، بل قد ذهب كله، أي‏:‏ وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند الله وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏265 - 266‏]‏

‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏

وهذا مثل المؤمنين المنفقين ‏{‏أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّه‏}‏ عنهم في ذلك ‏{‏وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ وهم متحققون مُثَبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء، ونظير هذا في المعنى، قوله عليه السلام في الحديث المتفق على صحته‏:‏ ‏"‏من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا‏.‏ ‏"‏ أي‏:‏ يؤمن أن الله شرعه، ويحتسب عند الله ثوابه‏.‏

قال الشعبي‏:‏ ‏{‏وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ تصديقا ويقينا ‏.‏ وكذا قال قتادة، وأبو صالح، وابن زيد‏.‏ واختاره ابن جرير‏.‏ وقال مجاهد والحسن‏:‏ أي‏:‏ يتثبتون أين يضعون صدقاتهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ‏}‏ أي‏:‏ كمثل بستان بربوة‏.‏ وهو عند الجمهور‏:‏ المكان المرتفع المستوي من الأرض‏.‏ وزاد ابن عباس والضحاك‏:‏ وتجري فيه الأنهار‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي الربوة ثلاث لغات هن ثلاث قراءات‏:‏ بضم الراء، وبها قرأ عامة أهل المدينة والحجاز والعراق‏.‏ وفتحها، وهي قراءة بعض أهل الشام والكوفة، ويقال‏:‏ إنها لغة تميم‏.‏ وكسر الراء، ويذكر أنها قراءة ابن عباس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَصَابَهَا وَابِلٌ‏}‏ وهو المطر الشديد، كما تقدم، ‏{‏فَآتَتْ أُكُلَهَا‏}‏ أي‏:‏ ثمرتها ‏{‏ضِعْفَيْن‏}‏ أي‏:‏ بالنسبة إلى غيرها من الجنان‏.‏ ‏{‏فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ‏}‏ قال الضحاك‏:‏ هو الرَّذَاذ، وهو اللين من المطر‏.‏ أي‏:‏ هذه الجنة بهذه الربوة لا تمحل أبدًا؛ لأنها إن لم يصبها وابل فطل، وأيا ما كان فهو كفايتها، وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبدًا، بل يتقبله الله ويكثره وينميه، كل عامل بحسبه؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء‏.‏

‏{‏أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏ قال البخاري عند تفسير هذه الآية‏:‏ حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام -هو ابن يوسف -عن ابن جريج‏:‏ سمعت عبد الله بن أبي مُلَيكة، يحدث عن ابن عباس، وسمعت أخاه أبا بكر بن أبي مليكة يحدث عن عبيد بن عُمَير قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ فيمن ترون هذه الآية نزلت‏:‏ ‏{‏أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ‏}‏‏؟‏ قالوا‏:‏ الله أعلم‏.‏ فغضب عمر فقال‏:‏ قولوا‏:‏ نعلم أو لا نعلم‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين‏.‏ فقال عمر‏:‏ يا ابن أخي، قل ولا تحقر نفسك‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ ضربت مثلا لعمل‏.‏ قال عمر‏:‏ أيُّ عملٍ‏؟‏ قال ابن عباس‏:‏ لعمل‏.‏ قال عمر‏:‏ لرجل غني يعمل بطاعة الله‏.‏ ثم بعث الله له الشيطان فعمِل بالمعاصي حتى أغرق أعماله‏.‏

ثم رواه البخاري، عن الحسن بن محمد الزعفراني، عن حجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج، فذكره‏.‏ وهو من أفراد البخاري، رحمه الله‏.‏

وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية، وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولا ثم بعد ذلك انعكس سيره، فبدل الحسنات بالسيئات، عياذًا بالله من ذلك، فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال، فلم يحصل له منه شيء، وخانه أحوجَ ما كان إليه، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ‏}‏ وهو الريح الشديد ‏{‏فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ‏}‏ أي‏:‏ أحرق ثمارَها وأباد أشجارها، فأيّ حال يكون حاله‏.‏

وقد روى ابن أبي حاتم، من طريق العَوْفي، عن ابن عباس قال‏:‏ ضرب الله له مثلا حسنًا، وكل أمثاله حسن، قال‏:‏ ‏{‏أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏ يقول‏:‏ ضيّعَه في شيبته ‏{‏وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ‏}‏ وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره، فجاءه إعصار فيه نار فأحرق بستانه، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه، وكذلك الكافر يوم القيامة، إذ ردّ إلى الله عز وجل، ليس له خير فيُسْتَعْتَب، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه، ولا يجده قدم لنفسه خيرا يعود عليه، كما لم يُغْن عن هذا ولدُه، وحُرم أجره عند أفقر ما كان إليه، كما حرم هذا جنة الله عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته‏.‏

وهكذا ، روى الحاكم في مستدركه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه‏:‏ ‏"‏اللهم اجعل أوسع رزقك علي عند كبر سني وانقضاء عمري‏"‏؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني، وتنزلونها على المراد منها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏43‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏267 - 269‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ‏}‏‏.‏

يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإنفاق -والمراد به الصدقة هاهنا؛ قاله ابن عباس -من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يعني التجارة بتيسيره إياها لهم‏.‏

وقال علي والسدي‏:‏ ‏{‏مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُم‏}‏ يعني‏:‏ الذهب والفضة، ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التصدق بِرُذَالَةِ المال ودَنيه -وهو خبيثه -فإن الله طَيْب لا يقبل إلا طيبًا، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلا تَيَمَّمُوا‏}‏ أي‏:‏ تقصدوا ‏{‏الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ‏}‏ أي‏:‏ لو أعطيتموه ما أخذتموه، إلا أن تتغاضوا فيه، فالله أغنى عنه منكم، فلا تجعلوا لله ما تكرهون‏.‏

وقيل‏:‏ معناه‏:‏ ‏{‏وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا تعدلوا عن المال الحلال، وتقصدوا إلى الحرام، فتجعلوا نفقتكم منه‏.‏

ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد‏:‏ حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا أبان بن إسحاق، عن الصباح بن محمد، عن مُرّة الهَمْداني، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحبَّ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده، لا يسلم عَبْدٌّ حتى يُسلِمَ قلبُه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جارُه بوائقه‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ وما بوائقه يا نبي الله‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏غَشَمُه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفقَ منه فيباركَ له فيه، ولا يتصدقُ به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث‏"‏‏.‏

والصحيح القول الأول؛ قال ابن جرير‏:‏ حدثني الحسين بن عمرو العَنْقَزيِّ، حدثني أبي، عن أسباط، عن السدّي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب في قول الله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ‏}‏ الآية‏.‏ قال‏:‏ نزلت في الأنصار، كانت الأنصار إذا كان أيام جذَاذ النخل، أخرجت من حيطانها أقناء البُسْر، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل فقراء المهاجرين منه، فيعْمد الرجل منهم إلى الحَشَف، فيدخله مع أقناء البسر، يظن أن ذلك جائز، فأنزل الله فيمن فعل ذلك‏:‏ ‏{‏وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ‏}‏ ثم رواه ابن جرير، وابن ماجه، وابن مَرْدُوَيه، والحاكم في مستدركه، من طريق السدي، عنعدي بن ثابت، عن البراء، بنحوه‏.‏ وقال الحاكم‏:‏ صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك، عن البراء‏:‏ ‏{‏وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ‏}‏ قال‏:‏ نزلت فينا، كنا أصحاب نخل، وكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته، فيأتي الرجل بالقِنْو فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع جاء فضربه بعصاه، فيسقط منه البسر والتمر، فيأكل، وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقِنْو فيه الحَشَف والشِّيص، ويأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه، فنزلت‏:‏ ‏{‏وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ‏}‏ قال‏:‏ لو أنّ أحدكم أهدي له مثل ما أعْطَى ما أخذه إلا على إغماض وحَياء، فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده‏.‏

وكذا رواه الترمذي، عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن عبيد الله -هو ابن موسى العبسي -عن إسرائيل، عن السدي -وهو إسماعيل بن عبد الرحمن -عن أبي مالك الغفاري -واسمه غَزْوان -عن البراء، فذكر نحوه‏.‏ ثم قال‏:‏ وهذا حديث حسن غريب‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا سليمان بن كثير، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لونين من التمر‏:‏ الجُعْرُور ولون الحُبَيق ‏.‏ وكان الناس يَتيمّمون شرار ثمارهم ثم يخرجونها في الصدقة، فنزلت‏:‏ ‏{‏وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُون‏}‏‏.‏

ورواه أبو داود من حديث سفيان بن حسين، عن الزهري ‏[‏به‏]‏ ‏.‏ ثم قال‏:‏ أسنده أبو الوليد، عن سليمان بن كثير، عن الزهري، ولفظه‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجُعْرُور ولون الحُبيق أن يؤخذا في الصدقة‏.‏

وقد روى النسائي هذا الحديث من طريق عبد الجليل بن حُمَيد اليَحْصُبي، عن الزهري، عن أبي أمامة‏.‏ ولم يقل‏:‏ عن أبيه، فذكر نحوه‏.‏ وكذا رواه ابن وهب، عن عبد الجليل‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن مَعْقل في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُون‏}‏ قال‏:‏ كسب المسلم لا يكون خبيثًا، ولكن لا يصدّق بالحشف، والدرهم الزّيف، وما لا خير فيه‏.‏وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو سعيد، حدثنا حماد بن سلمة، عن حماد -هو ابن أبي سليمان -عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت‏:‏ أُتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب فلم يأكله ولم ينه عنه‏.‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، نطعمه المساكين‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا تطعموهم مما لا تأكلون‏"‏‏.‏ ثم رواه عن عفان عن حماد بن سلمة، به‏.‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، ألا أطعمه المساكين‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا تطعموهم ما لا تأكلون‏"‏‏.‏

وقال الثوري‏:‏ عن السدي، عن أبي مالك، عن البراء ‏{‏وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيه‏}‏ يقول‏:‏ لو كان لرجل على رجل، فأعطاه ذلك لم يأخذه؛ إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه رواه ابن جرير‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيه‏}‏ يقول‏:‏ لو كان لكم على أحد حق، فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه‏.‏ قال‏:‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ‏}‏ فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه‏!‏‏!‏ رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، وزاد‏:‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏92‏]‏‏.‏ ثم روى من طريق العوفي وغيره، عن ابن عباس نحو ذلك، وكذا ذكر غير واحد‏.‏

قوله ‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها، وما ذاك إلا ليساوي الغني الفقير، كقوله‏:‏ ‏{‏لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 37‏]‏ وهو غني عن جميع خلقه، وجميع خلقه فقراء إليه، وهو واسع الفضل لا ينفد ما لديه، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب، فليَعلمْ أن الله غني واسع العطاء، كريم جواد، سيجزيه بها ويضاعفها له أضعافًا كثيرة من يقرض غَيْرَ عديم ولا ظلوم، وهو الحميد، أي‏:‏ المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، لا إله إلا هو، ولا رب سواه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏ قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا هَنَّاد بن السِّرِي، حدثنا أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن مرة الهَمْداني، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إن للشيطان لَلَمّة بابن آدم، وللمَلك لَمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق‏.‏ فمن وجد ذلك فليعلَمْ أنه من الله، فَلْيحمَد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان‏"‏‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا‏}‏ الآية‏.‏ وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سُنَنَيْهما جميعًا، عن هَنَّاد بن السِّرِي‏.‏وأخرجه ابن حبان في صحيحه، عن أبي يعلى الموصلي، عن هَنَّاد، به ‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن غريب، وهو حديث أبي الأحوص -يعني سلام بن سليم -لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديثه‏.‏ كذا قال‏.‏ وقد رواه أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن عبد الله بن رُسْتَه، عن هارون الفَرْوِي، عن أبي ضَمْرة عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن مسعود، مرفوعًا نحوه‏.‏

ولكن رواه مِسْعر، عن عطاء بن السائب، عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة، عن ابن مسعود‏.‏ فجعله من قوله، والله أعلم‏.‏

ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ‏}‏ أي‏:‏ يخوفكم الفقر، لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله، ‏{‏وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ‏}‏ أي‏:‏ مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق، يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخَلاق، قال ‏[‏الله‏]‏ تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ‏}‏ أي‏:‏ في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء ‏{‏وَفَضْلا‏}‏ أي‏:‏ في مقابلة ما خوفكم الشيطان من الفقر ‏{‏وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاء‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله‏.‏

وروى جُوَيْبر، عن الضحاك، عن ابن عباس مرفوعًا‏:‏ الحكمة‏:‏ القرآن ‏.‏ يعني‏:‏ تفسيره، قال ابن عباس‏:‏ فإنه ‏[‏قد‏]‏ قرأه البر والفاجر‏.‏ رواه ابن مَرْدُويه‏.‏

وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد‏:‏ يعني بالحكمة‏:‏ الإصابة في القول‏.‏

وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاء‏}‏ ليست بالنبوة، ولكنه العلم والفقه والقرآن‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ الحكمة خشية الله، فإن خشية الله رأس كل حكمة‏.‏

وقد روى ابن مَرْدُويه، من طريق بقية، عن عثمان بن زُفَر الجُهَني، عن أبي عمار الأسدي، عن ابن مسعود مرفوعًا‏:‏ ‏"‏رأس الحكمة مخافة الله‏"‏‏.‏

وقال أبو العالية في رواية عنه‏:‏ الحكمة‏:‏ الكتاب والفهم‏.‏ وقال إبراهيم النخَعي‏:‏ الحكمة‏:‏ الفهم‏.‏ وقال أبو مالك‏:‏ الحكمة‏:‏ السنة‏.‏ وقال ابن وهب، عن مالك، قال زيد بن أسلم‏:‏ الحكمة‏:‏ العقل‏.‏ قال مالك‏:‏ وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله، وأمْرٌ يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله، ومما يبين ذلك، أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا ذا نظر فيها، وتجد آخر ضعيفًا في أمر دنياه، عالمًا بأمر دينه، بصيرًا به، يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا، فالحكمة‏:‏ الفقه في دين الله‏.‏

وقال السدي‏:‏ الحكمة‏:‏ النبوة‏.‏ والصحيح أن الحكمة -كما قاله الجمهور - لا تختص بالنبوة، بل هي أعم منها، وأعلاها النبوة، والرسالة أخص، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبَع، كما جاء في بعض الأحاديث‏:‏ ‏"‏من حفظ القرآن فقد أدْرِجَت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه‏"‏ ‏.‏ رواه وَكِيع بن الجراح في تفسيره، عن إسماعيل بن رافع عن رجل لم يسمه، عن عبد الله بن عمر وقوله‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وَكِيع ويزيد قالا حدثنا إسماعيل -يعني ابن أبي خالد -عن قيس -وهو ابن أبي حازم -عن ابن مسعود قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لا حسد إلا في اثنتين‏:‏ رجل آتاه الله مالا فسلَّطه على هَلَكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها‏"‏‏.‏ وهكذا رواه البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجة -من طرق متعددة -عن إسماعيل بن أبي خالد، به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ‏}‏ أي‏:‏ وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب وعقل يعي به الخطاب ومعنى الكلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏270 - 271‏]‏

‏{‏وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏

يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات وتَضَمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده‏.‏ وتوعد من لا يعمل بطاعته، بل خالف أمره وكذب خبره وعبد معه غيره، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة ينقذونهم من عذاب الله ونقمته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ‏}‏ أي‏:‏ إن أظهرتموها فنعم شيء هي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم‏}‏ فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها؛ لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة، من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمُسِر بالقرآن كالمُسِر بالصدقة‏"‏‏.‏

والأصل أن الإسرار أفضل، لهذه الآية، ولما ثبت في الصحيحين، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله‏:‏ إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال‏:‏ إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا العوام بن حوشب، عن سليمان بن أبي سليمان، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏"‏لما خلق الله الأرض جعلت تميد، فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت، فتعجبت الملائكة من خلق الجبال، فقالت‏:‏ يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الجبال‏؟‏ قال‏:‏ نعم، الحديد‏.‏ قالت‏:‏ يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الحديد‏؟‏ قال‏:‏ نعم، النار‏.‏ قالت‏:‏ يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من النار‏؟‏ قال‏:‏ نعم، الماء‏.‏ قالت‏:‏ يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الماء‏؟‏ قال‏:‏ نعم، الريح‏.‏ قالت‏:‏ يا رب، فهل من خلقك شيء أشد من الريح‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ابنُ آدم يتصدق بيمينه فيخفيها من شماله‏"‏‏.‏

وقد ذكرنا في فضل آية الكرسي، عن أبي ذر قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أي الصدقة أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏سر إلى فقير، أو جهد من مقِل‏"‏‏.‏ رواه أحمد‏.‏

ورواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن أبي ذر فذكره‏.‏ وزاد‏:‏ ثم نزع بهذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم‏}‏ الآية‏.‏ وفي الحديث المروي‏:‏ ‏"‏صدقة السر تطفئ غضب الرب، عز وجل‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا الحسين بن زياد المحاربي مؤدب محارب، أخبرنا موسى بن عمير، عن عامر الشعبي في قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُم‏}‏ قال‏:‏ أنزلت في أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، فأما عمر فجاء بنصف ماله حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر‏؟‏‏"‏‏.‏ قال‏:‏ خلفت لهم نصف مالي، وأما أبو بكر فجاء بماله كلّه يكاد أن يخفيه من نفسه، حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر‏؟‏‏"‏‏.‏ فقال‏:‏ عدة الله وعدةُ رسوله‏.‏ فبكى عمر، رضي الله عنه، وقال‏:‏ بأبي أنت يا أبا بكر، والله ما اسْتَبَقْنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقا‏.‏

وهذا الحديث مروي من وجه آخر، عن عمر، رضي الله عنه‏.‏ وإنما أوردناه هاهنا لقول الشعبي‏:‏ إن الآية نزلت في ذلك، ثم إن الآية عامة في أن إخفاء الصدقة أفضل، سواء كانت مفروضة أو مندوبة‏.‏ لكن روى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في تفسير هذه الآية، قال‏:‏ جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها، فقال‏:‏ بسبعين ضعفًا‏.‏ وجعل صدقة الفريضة عَلانيتَها أفضلَ من سرها، فقال‏:‏ بخمسة وعشرين ضعفًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُم‏}‏ أي‏:‏ بدل الصدقات، ولا سيما إذا كانت سرا يحصل لكم الخير في رفع الدرجات ويكفر عنكم السيئات، وقد قرئ‏:‏ ‏"‏وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ‏"‏ بالضم، وقرئ‏:‏ ‏"‏وَنُكَفِّرْ‏"‏ بالجزم، عطفًا على جواب الشرط، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فَنِعِمَّا هِي‏}‏ كقوله‏:‏ ‏"‏فَأَصَّدَقَ وَأَكُونَ‏"‏ ‏{‏وَأَكُنْ‏}‏‏.‏

وقوله ‏{‏وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ أي‏:‏ لا يخفى عليه من ذلك شيء، وسيجزيكم عليه ‏[‏سبحانه وبحمده‏]‏‏.‏